في صبيحة 29 جوان 1992، اخترقت رصاصات الغدر ظهر محمد بوضياف أمام كاميرات التلفزيون في عنابة، ليسقط أحد أعمدة ثورة نوفمبر مضرّجًا بدمائه، عن عمر ناهز 73 عامًا. لم تكن تلك الرصاصات فعلًا فرديًا نفّذه الملازم لمبارك بومعرافي، بقدر كانت تعبيرًا عن نظام لا يرحم من يتحدى سطوته.
بوضياف، الذي استُقدم قبل أقل من ستة أشهر ليرأس المجلس الأعلى للدولة عقب انقلاب 11 يناير 1992، قُتل حين تجرأ على أن يكون رئيسًا حقيقيًا، لا دمية تتحرك بخيوط الجنرالات.
من قيادة الثورة إلى ضحية الانقلاب
محمد بوضياف، أحد مجموعة التسعة التي خططت وفجّرت ثورة الأول من نوفمبر 1954، كان رمزًا للعزيمة الثورية. عندما اختلف مع رفاقه حول مواجهة الاستعمار الفرنسي، قال بحزم: “سنُعلن الثورة المسلحة ضد فرنسا، معكم أو بدونكم أو ضدكم لو لزم الأمر”.
في 1956، اختطفته الحكومة الاستعمارية في أول عملية اختطاف طائرة مدنية في التاريخ، أثناء سفره من المغرب إلى تونس برفقة قادة ثوريين آخرين، وظلّ محتجزًا في سجن باريسي حتى مارس 1962.
وفي 1961، عرض عليه عبد العزيز بوتفليقة، بتكليف من العقيد هواري بومدين، رئاسة الجزائر المستقلة بدعم جيش الحدود، لكنه رفض العرض رفضًا قاطعًا. بينما قبل رفيقه أحمد بن بلة عرض جماعة وجدة.
في صيف 1962، عارض بوضياف انقلاب جماعة وجدة المسلح على الحكومة المؤقتة، واختار المقاومة السلمية بدلاً من حمل السلاح مثل حسين آيت أحمد. بعد سجنه وانكسار المعارضة أمام تحالف بومدين وبن بلة، لجأ إلى المغرب، حيث قضى 28 عامًا معارضًا حكم بن بلة ثم بومدين.
وبعد وفاة هذا الأخير، خفت صوته، وتفرغ لإدارة مصنع آجور في القنيطرة المغربية، حتى عاد اسمه إلى الواجهة قبيل انتخابات ديسمبر 1991.
عودة على ظهر دبابة
قبيل انتخابات 1991، ظهر بوضياف على التلفزيون الرسمي، داعيًا إلى احترام إرادة الشعب أيًا كانت نتائجها. لكن الجنرالات كان لهم رأي آخر. أرسلوا إليه علي هارون، وزير "حقوق الإنسان"، لإقناعه بأنه “الرجل الذي تنتظره الجزائر”. استُقدم بوضياف سرًا للقاء كبار الجنرالات، قبل أن يُستقبل رسميًا في 16 يناير 1992، يوم إلغاء الدور الثاني للانتخابات، ليرأس المجلس الأعلى للدولة.
ظنّ أنه سينقذ الجزائر، لكن الجنرالات استقدموه ليكون واجهة لكسر شوكة الجبهة الإسلامية للإنقاذ ليس أكثر.
رئيس يتحدى نظام الدمى
لم يكتفِ بوضياف بدور الرمز الزخرفي، بل سعى ليكون رئيسًا فعليًا. بدأ بفتح ملفات الفساد المالي في الجيش والإدارة المدنية، وعيّن ثلاثة من كبار ضباط المخابرات للتحقيق في الفساد المستشري بين أقطاب النظام. لكن هؤلاء الضباط اغتيلوا واحدًا تلو الآخر قبل مقتل بوضياف نفسه، في رسالة واضحة: من يقترب من أسرار النظام مصيره الفناء.
اتخذ خطوات لتهدئة الأوضاع:
أفرج عن عدة مئات فقط من معتقلي الجبهة الإسلامية، من بين عشرات الآلاف الموزعين بين معتقلات الصحراء وسجون المدن، في خطوة رمزية نحو المصالحة.
• تواصل مع عدد من الشخصيات الوطنية للبحث عن حلول سياسية للأزمة.
• قاوم،نسبيًا، التيار الاستئصالي الذي دعا إلى حرب شاملة ضد الإسلاميين، مما أثار خصومته مع الجنرال محمد العماري، قائد القوات البرية، الذي بدا بذيئًا وغير مؤدب في تعامله معه.
في أفريل 1992، طرد بوضياف العماري من مكتبه بعد نقاش حاد حول “مكافحة الإرهاب”. أمر بإقالته، لكن خالد نزار أعاده مستشارًا، في تحدٍ صارخ. وبعد اغتيال بوضياف، عاد العماري لقيادة الجيش، ليقود حملة قمع دموية.
حين زار المغرب: هجوم إعلامي بقلم نزار
في ماي 1992، زار بوضياف المغرب لحضور زفاف ابنه والتقى الملك الحسن الثاني. أثار اللقاء حفيظة النظام، فنشرت جريدة “المساء” مقالًا هاجمت فيه المغرب، بشدة وهددت بنشر أجزاء أخرى.
ردّ بوضياف بتحذير صلب: إذا استمر النشر، فلن يعود إلى الجزائر.
تبيّن لاحقًا أن المقال أمر بكتابته رأس الانقلاب شخصياً الجنرال خالد نزار، في محاولة لتقويض جهود بوضياف الدبلوماسية.
اغتيال تحت الأضواء وتحقيق مدفون
في 29 جوان 1992، سقط بوضياف برصاصات حارسه لمبارك بومعرافي، الذي يُعتقد أنه لا يزال في السجن.
شُكّلت لجنة تحقيق رسمية انتهت إلي ان الجريمة كانت بقرار فردي لكن بعض اعضاء اللجنة اعترضوا علي هذا ومنهم
المحامي محمد فرحات، عضو اللجنة، الذي تعرض لمحاولة اغتيال بعد أسبوعين.
• المحامي يوسف فتح الله، الذي رفض التوقيع على التقرير، اغتيل في 18 جوان 1994.
التقرير الرسمي نسب الجريمة إلى “فعل فردي”، لكن الشعب ردّد في جنازته: “اللي جابوه هم اللي قتلوه”.
وهو مااكده رئيس الحكومة يومها سيد أحمد غزالي لاحقًا.
ذاكرة مهملة وقائمة الدم
على عكس محو ذكراه تمامًا، سُمّيت بعض الشوارع والمستشفيات باسم بوضياف، لكن دون اهتمام حقيقي بتخليده. منذ السنة الثالثة لاغتياله، تمر ذكراه سنويًا دون حديث رسمي، كأن النظام أراد طي صفحته. حتى قاصدي مرباح، أحد مهندسي النظام الأمني، والذي كان علي يقين ان بوضياف قتله كبار الجنرالات اغتيل بعد حوالي عام لامتلاكه "أرشيفًا محرجًا".
نجله الأكبر يتهم
في كتابه، اتهم نصر الدين بوضياف خالد نزار ومحمد مدين (توفيق) بالتخطيط للاغتيال، قائلًا: “أبي لم يُقتل برصاصة حارس، بل قُتل حين بدأ يكشف النفق الذي أُغرقت فيه الجمهورية”.
خاتمة: جمهورية تأكل أبناءها
محمد بوضياف، الثائر الذي رفض عرض السلطة في 1961، وقع في خطأ مميت حين قبل عرض الجنرالات في 1992. كان مشروع إصلاح متأخر جدا لجمهورية تاهت في الفساد والدم، لكنه قُتل لأنه رفض أن يكون دمية.
من استقدموه ليُجمّلوا انقلابهم، أجهزوا عليه، ثم أهملوا ذكراه. بعد 33 عامًا، لا تزال الحقيقة معلّقة، وصوت الشعب يردد: “اللي جابوه… هم اللي قتلوه”.
محمد العربي زيتوت
ديبلوماسي جزائري سابق